من النادر أن يجتمع الجمال مع البساطة, من النادر أن تشهد على جمال سينمائي عنوانه “البساطة” و”التلقائية” في حين أصبح كل شئ مستهلك ومتصنع أمامك على الشاشة, من النادر أن ترى جمال من قلبك قبل عينيك, من النادر أن تشاهد البساطة السينمائية مكللة بإبداع جمالي لا مثيل له وأخيرا وليس آخرا من النادر أيضا أن يسحرك فيلما مدته لا تتجاوز 12 دقيقة تاركا أثرا داخلك وراسما في أحاسيسك وأذواقك الفنية السينمائية بصمة لا تنسى ولا تمحى ليغدو متفوقا على عدة أفلام روائية طويلة ومكتسحا وبقوة جدار قلبك لا إراديا وبدون إستئذان…أتكلم عن فيلم الموهوبة جينا أبو زيد والتي أثبتت ببراعة مدى شغفها السينمائي وحبها للفن السابع وإبداعها في التعمق به بشتى خباياه وصعوباته لتحلق عاليا وتغرد خارج السرب معلنة قدوم مخرجة إستثنائية بمشاعرها وخلوقة بعينها السينمائية السحرية الثاقبة.
“ما أجمل البساطة وما أبسط الجمال”…وهذا ما تجلى بشكل واضح ومميز في هذا الفيلم القصير الذي يسافر بنا داخل معالم رحلة حياة لانا, فتاة صغيرة تبلع من العمر عشر شنوات وجدها حكمت الذي يبيع حلوى “غزل البنات” على دراجته من أجل كسب لقمة العيش. وما أروع تلك الرحلة ! شريط سينمائي قصير ممتع بكل تفاصيله وما أجمل تلك التفاصيل التي أغرقتنا في تفاصيل التفاصيل! تفاصيل صنعت رحلة مؤثرة, إنسانية ودافئة…فيلم إنساني رائع ورغم صعوبة الإبداع, إلا أنه نادرا ما يكون معقدا حيث إنه يأخذ الأفكار المعقدة ويعثر على البساطة في داخلها وهذا ما فعلته تماما جينا بإعتمادها على موهبتها, شغفها, ذكاءها وعفويتها في إيصال رسالتها السينمائية بمنتهى البساطة بعيدا عن التصنع والمبالغة المفرطة. خاضت في هذا الفيلم القصير تجربة إبداعية وسحرية استطاعت بها كسر مقولة : “يحكى أن البساطة…هي نصف الجمال” ففي فيلم جينا البساطة هي كل الجمال لا نصفه ولا ربعه, ونسبة إلى كسر تلك المقولة وإنشاء مقولة أخرى بدالها : “البساطة هي بحد ذاتها جمال” أبدعت جينا بجعلنا نغرق في قصة الفتاة وجدها والتعايش معهم ومع ظروفهم الصعبة, قصة مكنتها من أن تصنع فيلما حساسا وعاطفيا ومبهرا بمدى صدقه وصدقه تماما, وتثبت أنها صانعة أفلام موهوبة بالدرجة الأولى من دون أن ننسى طبعا ونذكر بشدة الكادرات السينمائية الفائقة الروعة والتميز والتصوير المتقن كما استطاعت جينا عن إستحقاق وجدارة إبراز إحساس القصة من خلال الصورة فالفيلم هو الصورة “لا تحك للناس القصة, أرهم صورا” وهذا ما نجحت به بإمتياز وبراعة. السينما هي وسيلة تعبير بالصورة وهي أكثر الطرق إقتصادية في إيصال ما تريد التعبير عنه للمتلقي وقد تفوقت جينا بمساعدة فريق عمل الفيلم بالطبع في رسم مفاتيح خصائص شخصياتها, أحاسيسهم, مكانتهم الإجتماعية, أفعالم في صورة مشرقة تتوق العين إلى رؤيتها والإستمتاع بجمالها.
فيلم جسد كل مشاعر الذات الإنسانية والنفس البشرية في قصة رائعة بين الفتاة وجدها, كما ابتكر شيئا خاصا جدا مميزا وفريدا والذي لم أره في هذا النوع من الأفلام وهو إدخال الإبتسامة ورسمها على القلوب قبل الوجوه بالرغم من الموضوع الدرامي الذي يتناوله الفيلم, والإبتسامة هنا هي أداة للتكيف مع الواقع الأليم أما الحوارات الرائعة والبسيطة بين الفتاة وجدها هي أجمل وأروع لحظات الفيلم وأكثرها صدقا ودائما ما تكون في منتهى الإحساس والعبقرية السينمائية الإنسانية أمام عين جينا الحساسة ورؤيتها الفريدة وداخل قوة كبيرة في كتابتها ونصها الدافئ المكتوب بدقة وحرفية وإنسانيات جميلة تشعرك بالأمان عندما يحين وقت التأثر ! ويحسب للفيلم أنه صور شعور المدينة كالمباني ومدينة الملاهي وأجواء الشوارع بطرق يميل العديد من صانعي الأفلام إلى تفويتها, فالمشاهد الخارجية مصورة بشكل أنيق ورائع وعكست بشكل إيجابي جدا على القصة ومضمونها الدرامي. أما جميع الممثلين فقد تألقوا بأداء أدوارهم على أكمل وجه وبشكل خاص الممثل الرائع حسام الصباح والفتاة الصغيرة الموهوبة كلوي نهرا, تعايشنا مع حكايتهم ونسينا أنفسنا لمدة زمنية قصيرة تمنينا لو كانت أطول ولم تنته !