…الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم عنيد مستمر
نثق أن الحياة مؤلفة من خطوط زمنية تستمر بشكل أبدي وموحد إلى ما لا نهاية ولكن الفارق بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى مجرد وهم…فكل أشباح الماضي التي اعتقدنا أنها ماتت واندفنت…ممكن بأي لحظة أن تعود إلى الحياة مجددا وتدمر حاضرنا وتقضي على مستقبلنا ومصيرنا الذي تحدده خيوط دم تربط كل أفعالنا وذنوبنا…لتصبح أحداث الماضي في الواجهة مرة أخرى وتضعنا الحياة أمام مفترق طرق ندرك فيه أن الأمس واليوم والغد ليسوا متعاقبين ولا متباعدين بل متصلون في دائرة لا نهائية ومتقاربين أكثر مما كنا نتصور أو نتخيل.
حديثنا اليوم عن مسلسل نتفلكس القصير المؤلف فقط من ست حلقات وهو مسلسل بولندي غامض, مقتبس من رواية عام 2007 التي تحمل نفس الإسم من تأليف Harlan Coben. تم عرض المسلسل لأول مرة على نتفلكس في 12 يونيو 2020 وتدور أحداث المسلسل في عامي 1994 و 2019 ويحكي قصة المدعي العام ووكيل نيابة في وارسو باويك كوبينسكي, لا يستطيع التعافي من فقدان أخته الحبيبة منذ سنوات عديدة والتي فقدت في ظروف غامضة خلال المخيم الصيفي. الإكتشاف غير المتوقع والمفاجئ لجثة يبدو أن موتها مرتبط بإختفاء الفتاة يؤدي أخيرا إلى الإنفراج في التحقيق وعودة القضية إلى الواجهة مجددا بعد مرور 25 سنة على الحادثة المشؤومة. تبدو القصة منذ اللحظة الأولى في منتهى الإثارة والتشويق وتنجح جيدا في لفت إنتباه المشاهد وجعله يغوص بها وبخباياها نسبة إلى السيناريو القوي المكتوب بدقة وذكاء حاد بالرغم من بعض الثغرات داخله والتي بدت غير منطقية على الإطلاق لكن تلك الثغرات الصغيرة لم تمنع من تصنيف المسلسل كإحدى أفخم المسلسلات القصيرة التي عرضت على منصة نتفلكس في السنوات الأخيرة, ولم تستطع سرقة المتعة من قلوب المشاهدين فالحلقة الأولى فقط كفيلة لوحدها بأن تجعل المشاهد يتنقل لا إراديا بين حلقة وأخرى ليصل في النهاية إلى ذروة الحكاية وإرتفاع منسوب التشويق كحد أقصى.
لا يستطيع هذا المسلسل تحديد نوعه بشكل خاص ما إذا كان مسلسل إثارة غامض أو دراما كاملة وهذه النقطة بالتحديد بالنسبة لي ليست نقطة سلبية أبدا, فالدراما في المسلسل ممتازة وهذا الإمتياز إن كان يدل على شئ فهو يدل على قوة الحبكة الدرامية وسياق معالجة القصة وأحاسيس كل من الشخصيات ومشاعرهم وإن كانت تلك المشاعر الممزوجة بالدراما التلفزيونية قد ازدادت في منتصف الحلقات بشكل مفرط وكسرت حاجز الغموض فهذا الإكتمال الدرامي لم يؤثر على مجرى الأحداث ولم يخفف إطلاقا حجم التشويق داخل الحكاية. المسلسل القصير ملئ بالشخصيات وتم تناول وربط الشخصيات ببعضها ببراعة على الرغم من وجود ضعف في رسم أعماق بعض الشخصيات الثانوية وأقواس أفعالهم ومكنونات نفسياتهم حيث لا نفهم جيدا دوافهم ومبررات تصرفاتهم غير أن هذا الضعف عكس بشكل إيجابي على بطل الرواية بتركيزه عليه تركيزا تاما, فكل القصة تبدأ منه وتنتهي منه حتى لو لم ندرك جيدا وبشكل واضح بعض الشخصيات وأهميتها من عدمها, إلا أننا تعايشنا مع البطل ورحلته بشكل جيد جدا. جعلنا البطل نفكر ونستوعب الواقع الأليم الذي يعيش فيه الآن المرتبط بماضيه الأسود في المخيم الصيفي ومستقبله الذي لا يبدو مشرقا بتاتا في ظل سعيه لكشف الحقائق وفك لغز المستور في تلك الليلة سنة 1994. ويحسب جيدا للمسلسل أنه أبدع وبشدة بالتنقل بين الأزمنة بواسطة تقنية الفلاش باك والمستخدمة هنا بطريقة يحاول العديد من صانعي المسلسلات التلفزيونية تفويتها : جدولين زمنيين 1994 و 2019…سافرنا معهم وبهم إلى رحلة مثيرة مليئة بالإضطرابات والتساؤلات بعيدة كل البعد عن فخ الوقوع في الرتابة والملل بالإضافة إلى التصوير الرائع والمتقن وبشكل خاص المشاهد الخارجية ومشاهد الغابة ولا أبالغ إن قلت أن كل لقطة مصورة في الغابة تصلح أن تكون وبشدة لقطة من فيلم سينمائي يفوز بجائزة أفضل تصوير عن إستحقاق وجدارة فلقطات الغابة تبدو للوهلة الأولى وكأنها لوحات مرسومة بريشة رسام موهوب ومبدع تتوق العين لرؤيتها والإستمتاع بجمالها.
في النهاية قد تحبط نهاية اللغز المشاهد لأنها لا تقدم له كامل الأجوبة ولا تجيب عن كل الأسئلة فتترك القصة مفتوحة وممكن أن نطلق على النهاية بأنها ميزة فنية قابلة للنقاش ومعقولة وليست خارقة أو غير منطقية, ليس هناك أي محاولة تفوق أو تحدي على الجمهور واللعب بذكاءه كما هو الحال في العديد من المسلسلات.
على الرغم من أخطاء المسلسل وبعض قصصه الفرعية الغير منطقية إلا أنه بتصويره السينمائي الفعال وصورته المبهرة والفريدة وجودة إنتاجه يبقى خيارا جيدا جدا وسليما للمشاهدة, ولكنه قابل للنسيان وبشدة بعد فترة زمنية لا بأس بها.
-إيلي طايع-
In Warsaw, a prosecutor’s hopes rise after a body is found and linked to his sister’s disappearance 25 years earlier.