هل يمكن أن يكون خطأ ساذج في الصغر مقدمة لحياة مروعة في الكبر ؟
تبرز عبقرية الفيلم بمعالجة السياق الدرامي السينمائي ببراعة متميزة وخارجة عن المألوف وتلك البراعة تجعل القصة تتدفق تدريجيا ورويدا رويدا حتى تبلغ ذروتها من خلال عدم التسارع في إبراز الحبكة السينمائية وكعادة معظم أفلام المخرج الفرنسي الكبير مايكل هانكه الإيقاع البطئ هو سيد الفيلم وعنوانه وبالرغم من البطء الشديد على صعيد تراكم الأحداث وسرد القصة واللقطات الطويلة تارة والثابتة تارة أخرى إلا أن المشاهد لا يشعر بلحظة ملل بل أسلوب مايكل هانكه السينمائي يشد المتفرج بشكل كبير في متابعة الفيلم من البداية إلى النهاية وتلك الميزة إن كانت تدل على شئ فهي تدل على إبداع مايكل وعبقريته السينمائية وتألقه وتفرده الشديد الخصوصية حيث من الصعب جدا ومن النادر أيضا أن نجد إيقاعا في منتهى البطء داخل فيلم لا يرافقه الملل ولا تسيطر عليه الرتابة.
هو فيلم إثارة فرنسي صدر عام 2005 من بطولة دانيال أوتيل والرائعة جولييت بينوش وتأليف وإخراج صاحب التحفالسينمائية الفرنسية مايكل هانكه مخرج فيلم الحب (amour) الذي فاز بجائزة أوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية عام 2013 كما حصل فيلمه caché على 24 جائزة دولية وترشح لثلاثة وعشرون جائزة أخرى وكان فيلم الإفتتاح لمهرجان كان السينمائي عام 2005 ونال إستحسان الجمهور والنقاد. وتدور أحداث الفيلم حول (جورج) (دانيال أوتيل) الذي يرتكب خطأ في صغره حينما يتخلص من ماجد ذو الأصول الجزائرية والذي كان يعيش معه في المنزل بالتبني بعد مقتل والديه في مجزرة باريس عام 1962 حيث يتم إعادته مرة أخرى إلى الملجأ بسبب إفتراءات جورج عليه وكذبه وعندما يكبر جورج ويتزوج تصل له أشرطة تسجل كل ما يقوم به مع زوجته في المنزل وكأنهما تحت مراقبة مستمرة فهل عاد ماجد فعلا لينتقم من جورج ويدمر حياته بعد كل هذه السنين الطويلة ؟!
أجواء الفيلم مربكة إلى حد كبير ومثيرة للتوتر وشد الأعصاب تدعو إلى التعايش والغوص لا إراديا مع بطلي الفيلم (جورج وزوجته) منذ اللحظة الأولى عندما يواجهان في البداية لغزا محيرا مجهول المصدر ويستمر هذا اللغز طوال الفيلم وينشأ تدريجيا ويكبر أكثر فأكثر مع زيادة خوف جورج وعائلته وعيشهم على أعصابهم لدرجة أن حياتهم تنقلب رأسا على عقب فليس من السهل أبدا أن تدرك أنك مراقب طوال الوقت ولا تعرف من يراقبك ! حياتك بلحظة ستتحول إلى جحيم ربما يكون جحيم أبدي ! إنه فيلم رائع بدرجة ممتازة وفائق الروعة أيضا, فيلم ليس عاديا ابدا ولا يمكن أن يمر مرور الكرام عند مشاهدته, قصة ذو لغز جبار وتتوافر فيها جميع عناصر المتعة والتشويق والإثارة والتسلية أيضا والفائدة بقدر أفلام المخرج ألفرد هيتشكوك المعروفة في كونها تتميز بالعمق الدرامي والإنساني خلف حكاية مثيرة وغامضة. فيلم صعب وثقيل المستوى إلى أقصى الحدود وتكمن صعوبته بإيقاعه البطئ حيث لا يمكن للمشاهد أن يتلهى عنه ولو لثانية واحدة بل ينبغي أن يثقل نفسه بتركيز شديد وتحليلات وأبعاد سياسية وإجتماعية وإنسانية وذلك ببساطة لأن القصة تبدو للوهلة الأولى مسألة مراقبة وتهديد ويشعر المشاهد أن ثمة خطب ما ولكن على وشك معرفة حدوث ما يحصل وما الغاية منه غير أن في منتصف الفيلم تبدأ القصة بالتفرع والكشف عن أنيابها لتصبح قضية أوطان وليس فقط قضية عائلة تحت المراقبة وتدمير حياتها من قبل مجهول. هذا الفيلم يجعلك تشارك أبطاله في تفاصيل حياتهم المقلقة والمربكة لدرجة تشعر أنك أنت بحد ذاتك مراقب كما يجعلك ايضا أن تتبع حركات جورج الدقيقة وهو يحاول كشف هوية المزعج الذي يراقبهم عن كثب مع ماضيه في الريف وفعلته الشنيعة.
فيلم ذكي جدا وفي أعلى درجات الجمال والإبداع لا سيما في إستخدام عناصر التشويق من دون السرعة في الأحداث وخلق أجواء دراماتيكية لا مثيل لها تشعرك بالخطر القادم حين يحين وقت كشف المتسور !
المبدع مايكل هانكه لا يكترث بإعطاء المشاهدين أجوبة على أسئلتهم وحيرتهم…كيف تم تصوير جورج وزوجته وهما ذاهبان إلى العمل ؟ من الذي كان يبتزهم ويراقبهم ؟ فالفيلم لا يكشف بصراحة عن الشخصية التي ترسل الأشرطة واعتبر هانكه أنه من الأهمية الثانوية لإستكشاف الذنب وترك السؤال متروكا ومفتوحا لتفسير المشاهد, لماذا لم نسمع الحوار الذي دار بين إبن جورج وإبن ماجد في المشهد الأخير من الفيلم ؟ لا يهتم مايكل هانكه بذلك بل يهتم وبشدة بأعماق الإنسان وهو في حالة تشتت بين ما هو ماض وما هو آت ؟! ويغلق كل الأسئلة إلى قضية “ضد مجهول”…وفي خضم اللامبالاة عند التجاوز وأذى الآخرين يبزغ الشعور بالذنب, فجورج لا يهتم كثيرا بأفعاله الخاطئة في الصغر لكن يهتم بأفعال الآخرين الخاطئة في الكبر وتنطبق عليه مقولة “إذا تعلق الأمر بذنوبنا أقسمنا أن الله غفور ورحيم لكن إذا تعلق الأمر بذنوب الآخرين تجاهنا أكدنا أن الله شديد العقاب” فبالنسبة لجورج هو ليس شخصا مذنبا ولا يكترث حتى أن يكون مذنبا إلى أن تفضحه في النهاية روائح ذنوبه…
من يشاهد الفيلم سيشهد على رائعة فنية وتحفة سينمائية ضخمة ورمزية مثيرة للجدل والنقاش حول الذنب الجماعي والذاكرة الجماعية والحرب الفرنسية الجزائرية والإستعمار بشكل عام.
تم إعتبار هذا الفيلم في السنوات التي انقضت منذ إصداره كواحد من أعظم الأفلام في الألفية من القرن الماضي وهو مدرج في قائمة أفضل 100 فيلم من القرن ال 21 لهيئة الإذاعة البريطانية.
-إيلي طايع-