إن عظمة الإبداع في الفن السابع تحمل في طياتها جنونا سينمائيا فريدا من نوعه…جنون إبداع بكل تفاصيله السحرية…بكل معالمه وخباياه وإمتيازاته…إبداع يلخص السينما بكل جمالها وسحرها وعالمها الخاص الذي لا يشبه أي عوالم أخرى, عالم لا مثيل له…إبداع يضاعف حبك للسينما ويزيد شغفك الجنوني بها. أتكلم عن إبداع فيلم “حياة ديفيد غيل”, هذا الفيلم الرائع الذي شكل بصمة لا تمحى في تاريخ السينما وسطر نفسه كأحد أهم وأعظم أفلام الألفية إن لم يكن أعظمها لكن يؤسفني القول بأنه منسي ولا أحد يتكلم عنه أو يذكره مما يثبت لنا بأن ليس كل فيلم مشهور هو بالضرورة فيلم رائع فهناك الكثير من الأفلام الجميلة والتي أعادت أمجاد السينما الحقيقية وقت عرضها ولم تنل النجاح التي تستحقه في حين أن هناك أفلام حققت نجاحا ساحقا في دور العرض وشهرة واسعة ولم تكن على المتسوى الفني المطلوب.
“أنا لست ديفيد غيل…أنا قاتل ومغتصب على بعد أربعة إيام من إعدامه…”.
شاهدت هذا الفيلم لأول مرة منذ مدة طويلة وتبعته بعد ذلك مشاهدات عديدة له مرات أخرى, فيلم مبهر بكل تفاصيله وقد يكاد يكون أكثر فيلم أعدت مشاهدته في حياتي وفي كل مرة أكتشف فيه عنصرا جديدا لم أكن أراه وأميزه في مشاهداتي السابقة له ولعل كثرة مشاهدتي لهذا الفيلم جعلتني أدرك أن الفيلم العظيم لا يمل منه حتى لو شاهدته أكثر من عشرين مرة وهذا ما ينطبق تماما على هذا الفيلم الخالد والراسخ في أرشيف الأفلام وفي مكتبة السينما العالمية. فيلم “The Life of David Gale” من نوعية الأفلام التي تحمل بعدا إنسانيا واقعيا ، فالمخرج “آلان باركر” تناول في الفيلم قضية خطيرة من القضايا الملحة التي يدور بشأنها الكثير من الجدل في أنحاء متفرقة من العالم ، وهي قضية عقوبة الموت أو الحكم بالاعدام على مرتكبي بعض الجرائم ، التي تنقسم الآراء بشأنها بين مؤيد ومعارض والتي أنشئت من أجلها الكثير من الجمعيات والتنظيمات التي تدعمها أو تعمل للقضاء عليها.
– يركز الفيلم على هذه القضية من خلال قصة حياة “ديفيد غايل” (كيفن سبايسي) بروفيسور الفلسفة الذي يعمل مع صديقته في الجامعة “كونستانس هاراواي” (لورا ليني) من أجل معارضة عقوبة الموت باذلين أقصى ما يمكنهما في سبيل منع إعدام المذنبين .. لتبدأ القصة عندما يصل لمقر الصحيفة طلب لعمل مقابلة صحفية مع المدان “ديفيد” في جريمة قتل هزت وأثارت الرأي العام ، فالضحية هي “كونستانس” زميلته ، كان الطلب محدد .. الصحفية “بيتسي” (كايت وينسلت) هي من ستقوم به ، وبمقابل نصف مليون دولار .. المقابلة هي الأولى والأخيرة ل”ديفيد” ومقسمة على ثلاثة أيام .. مباشرة قبل تنفيذ الحكم عليه.
وفي إطار كفاحها من أجل هذه القضية ، يأخذنا الفيلم إلى إستعراض تفاصيل حياة “ديفيد” لنرى كيف يجد نفسه فجأة وقد خسر كل شيء في حياته ، ثم يرجع بنا لنرى بعضا من جوانب حياة “كونستانس” لنراها وهي تفقد كل شيء أيضا ولكن بطريقة مختلفة عن “ديفيد” ، ولكنهما يشتركان في طريق نهايتهما الغير المتوقعة لتنكشف المفاجئة الكبرى وينتهي الفيلم نهاية صادمة وبالنسبة لي من أكثر النهايات الصادمة في تاريخ الأفلام, نهاية تتسبب لكل المشاهدين بالضياع والذهول للحظات معدودة من جهة كما تجعلهم يغرقون في إختبار حاد الذكاء من جهة اخرى وهنا لا بد أن نشير إلى إيقاع الفيلم السريع والرائع الذي لا يسقط سهوا بتاتا بل يظل متسارعا طوال الحكاية بشكل دقيق وإحترافي حتى نصل إلى الذروة القاتلة التي تكشف لنا عن كل شئ مستور وتفك اللغز الغامض. قصة خطيرة وسيناريو أخطر…سينارية جنوني بكل ما تحمله الكلمة من معنى, حبكة مرعبة وأحداث في غاية الروعة والإتقان والتشويق وعلى كل الراغبين في إحتراف مهنة كتابة السيناريو عليكم أن تشاهدوا هذه التحفة السينمائية العظيمة فساعتين ونصف من هذا الفيلم كفيلة لوحدها أن تعلمكم عن جدارة وإستحقاق أساسيات كتابة السيناريو وتركيب القصة وخلق حبكة مشوقة وشخصيات من لحم ودم تتعاطف معهم لبرهة ثم تكرههم ثم تعود مجددا وتحبهم ! قضية خطيرة وشديدة الأهمية, معلومات وتفاصيل مكثفة داخل القصة أضافت للفيلم الكثير وأبرزت قضيته نحو مسار آخر من الإبداع السينمائي والتقني, ممثلون بارعون ومتألقون وتقمصوا أدوارهم على أكمل وجه لا أجد بينهم أي ممثل يمكن أن أطلق على أدائه أنه “جيد” فقط خصوصا الموهوبة والرائعة “كايت وينسلت” والتي قدمت أحد أفضل وأجمل أدوارها في هذا الفيلم والممثل “كيفن سبايسي” صاحب موهبة نادرة وإستثنائية أبدع وحلق عاليا بأدائه البارع بعدما قدم أداءا في غاية الجمال في تحفته الأخرى “الجمال الأميريكي” للمخرج سام مندس.
لا أحد سيشاهد “حياة ديفيد غيل” ليرى مجرد فيلما عاديا يمر مرور الكرام, بل رائعة فنية نادرة الصنع والخلق والإبداع, هذا أحد أكثر الأفلام التي تعرضت للظلم ولم تحظ بشهرة كافية رغم جودتها وذلك بسبب مهاجمة النقاد له بكثافة كبيرة لأسباب حتى الآن لم ولن أفهمها وأستوعب مبرراتها !